معركة الصمود والبقاء بقلم: د. رفيق حبيب
فصول كثيرة مرَّت من معركة العلمنة وحركات الإصلاح والنهوض، ولكنها ليست كل الفصول، فالمعركة ما زالت مستمرَّة، بين مشروع للعلمنة الغربية، تحميه الدولة القومية القطرية، والاستبداد الداخلي، أو الاستعمار المحلي، وحركات الإصلاح والنهوض، وتمثِّلها الحركة الإسلامية، ومنها جماعة الإخوان المسلمين، وهي نفس المعركة بين الاستعمار الذي يحتل أرضًا عربيةً أو إسلاميةً، وحركات المقاومة المسلحة، خاصة الحركات الإسلامية الجهادية، وهي معركة مستمرَّة منذ عهد الاستعمار الغربي العسكري المباشر، وما زالت فصولها تُكتب في عهد الهيمنة الغربية والاستعمار غير المباشر، والقوى التي تواجهها حركات النهوض والإصلاح، والتي تحمل المشروع الحضاري الإسلامي، تمثِّل قوة طاغية في عالم اليوم، وهي القوى المهيمنة والمسيطرة، ولكن حركات الإصلاح الحضاري الإسلامي، تحمل مشروعًا مهيمنًا على وعي الأمة، ويمثِّل تاريخها الحضاري، وقيمها الدينية والحضارية.
فالمعركة إذًا بين القوة المادية الكبرى في عالم اليوم، وقوة الانتماء التاريخي والحضاري والديني، وهي معركة بين القوى المهيمنة، والأمة، هي معركة بين السلاح والعقيدة، وبين المدفع والفكرة، وبين الآلة والإنسان، وبين القوة الحربية والاقتصادية، والقوى البشرية، وتلك هي المعركة على أرض فلسطين المحتلة، فالمقاومة الإسلامية تستمد قوتها الحقيقية من قوة المجتمع نفسه، وتستند إلى الإيمان الديني والانتماء الحضاري للمجتمع، وتسلِّح نفسها بقوة الفكرة وعزيمة الناس، ولولا حماية المجتمع حركات المقاومة، ما استمرت، ولكن العدو الصهيوني يواجه تلك المقاومة بقوة السلاح، وبالتفوق العسكري، فالمعركة- إذًا- هي بين قوة التفوق العسكري، وقوة التفوق البشري، بين قدرة نيران السلاح، وبين قدرة اعتقاد الإنسان.
هذا هو ميزان القوة المختل، في المعركة بين الأمة و قوى الاستعمار والاستبداد، فالميزان مختل، لأن القوى المعادية تملك قدرات عسكرية هائلة، ولكن الميزان مختل أيضًا؛ لأن الأمة تملك قدرات إنسانية هائلة، هذا هو المعنى الأعمق لاختلال التوازن، والذي يؤدِّي إلى قلب موازين التوازن والقدرة على الردع، فالسلاح قادر على التدمير، ولكن الإنسان قادر على مواجهة التدمير، وقادر على الصمود، وبين الصمود الإنساني، وقدرة السلاح على التدمير، تحدث المفارقة في معركة الأمة.
فالأمة الإسلامية غير قادرة على تحقيق النصر الآن، ولكنها لم تنهزم أيضًا، والقوة الاستعمارية الخارجية والقوى الحاكمة المستبدة، استطاعت فرض هيمنتها، ولكنها لم تستطع تحقيق النصر النهائي، فلم تخضع الأمة إلى عملية العلمنة والتغريب، ولم تستسلم لعوامل التفكيك، بالرغم من كل ما حدث فيها من تفكك، فالأمة تقاوم، وتمنع القوى المهيمنة من تحقيق النصر النهائي.
هي نفس المعادلة التي تواجه جماعة الإخوان المسلمين، فلم يستطع أحد تحقيق النصر عليها، بالرغم من ما تواجهه من حصار خانق، ولكنها مع ذلك تتمدد، وتتمدد معها فكرتها، لم تستطع الجماعة تحقيق النصر، ولكنها لم تنهزم، وما زالت قدرتها على تحقيق النصر حاضرة، والحركات الإسلامية هي طاقة بشرية، وهي بالتالي تمثِّل الأمة وتعكس أوضاعها، فالحركة الإسلامية تمثِّل طاقةً بشريةً لم تنهزم، حتى وإن لم تحقق النصر بعد، والأمة تمثل طاقة بشرية لم تنهزم حتى وإن لم تحقق النصر بعد.
الصمود
هو الصمود إذًا، أي القدرة على عرقلة الطرف الآخر عن تحقيق أي نصر مؤكد، والقدرة على تحويل الحرب إلى حرب مفتوحة لا نهاية واضحة لها، وكلما أصبحت الحرب مستمرة، والمعارك متتالية، فقدت القوى المهيمنة قدرتها على الصمود والاستمرار، وتعرضت لنزيف مستمر في طاقتها وإمكانياتها، وضعفت قدرتها على التحمل والاستمرار، ولكن الأمة في المقابل، ومعها الحركات الإسلامية، وحركات المقاومة الإسلامية، تستمر في المعركة بقدرة هائلة على الصمود والاستمرار في المقاومة والإصلاح، وتبدو جماعة الإخوان المسلمين، وكأنها مجهزة لمعركة طويلة الأجل، والتي لا يُعرف لها نهاية محددة، وهي بهذا مجهَّزة للصمود لعقود طويلة، والناظر إلى الحركات الإسلامية عمومًا، وحركات المقاومة الإسلامية خاصةً، يجد أنها معدة لخوض المعارك الطويلة الأجل، لذا فالنصر الذي حققته حركة حماس في قطاع عزة، في مواجهة آلة الحرب الصهيونية، تمثِّل أساسًا القدرة على الصمود، فحركات المقاومة ليس لديها طاقة نيران يمكن أن تلحق بالعدو نفس القدر من التدمير الذي يتسبب فيه العدو، فهو يملك السلاح المدمر، ولكن حركة المقاومة تملك القدرة على الصمود، ليس فقط كحركة بل كشعب، وكأمة ومن خلال الصمود الإنساني، للحاضن الاجتماعي الذي يحمي المقاومة في الأرض المحتلة، وفي كل أرض العرب والمسلمين، تتحول المقاومة إلى طاقة هائلة، قادرة على الصمود والتصدي لكل عدوان.
والصمود هو الذي يمنع الطرف المهيمن من تحقيق أي نصر نهائي وحاسم، فلا العلمنة استطاعت تغيير هوية الأمة، ولا التغريب قضى على قيمها، ولا الدولة القومية القطرية فككت وعي الأمة بوحدتها، وكذلك فإن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، لم يستطع نزع أرض فلسطين من أهلها، أو نزعها من الأمة، وبقيت كل المعارك مفتوحة؛ لأن هناك قوى تقاوم تلك الأوضاع، وتدفع إلى الإصلاح والتغيير.
معركة الأجيال
معركة الأمة هي معركة أجيال، فقد يتراجع جيل عن القيام بدوره، ولكن يظهر جيل آخر يحمل الراية ويقاوم، ثم يتبعه جيل بل وأجيال، وتستمر المسيرة، قد تتراجع تلك المسيرة مرات، وتتقدَّم مرات، ولكنها مسيرة مستمرة، وتلك هي طبيعة الأشياء، فالمعارك التي تعتمد على القوة البشرية، هي معارك تستمر ولا تتوقَّف، فالأمة التي تحمل هويتها وتحارب من أجل وحدتها ونهضتها، هي أمة قادرة على تسليم راية المعركة من جيل إلى آخر، حتى يتحقق لها النصر؛ لذا تمتلك الشعوب القدرة على المقاومة، والتي لا يحدها زمن، بل تتجاوز حاجز الزمن، وتستمر المقاومة من جيل إلى آخر.
وبقدر ما تمتلك قوى الهيمنة في عالم اليوم من إمكانيات، إلا أنها لا تمتلك تلك الطاقة البشرية التي تجعلها تخوض الحروب المستمرة عبر الأجيال، فكل مشروع للهيمنة يحاول حصد نتائجه، وتحقيق الغاية منه، دون أن يتحوَّل إلى حرب مفتوحة لا نهاية لها، ولكن المقاومة تحول تلك المعارك إلى حرب مفتوحة لا نهاية لها، فالأمة تقاوم من أجل تحقيق غايتها، حتى وإن استمرت مقاومتها إلى قرون، وقوى العدوان والهيمنة تريد إنجاز النصر، ولا يمكنها أن تصبر لعقود أو قرون.
تلك هي مفارقة معنى الزمن بين طرفين، فالقوى الحاملة مشروع العلمنة وتغريب الأمة، تريد تحقيق النصر العاجل، أما القوى الإسلامية الإصلاحية والمقاومة، فتعمل من أجل النصر الآجل، فمن يملك السلاح والمال والإمكانيات، يريد نصرًا عاجلاً، قبل أن يستنزف، ولكن من يملك الطاقة البشرية الإيمانية، فيعلم أن الصمود والبقاء هو أول النصر، وأنه القادر على البقاء والصمود؛ لذا يعرف أن قوَّته في قدرته على الاستمرار في المعركة، لذا يعمل من أجل النصر الآجل.
موعد النصر
بهذا تشكَّلت قناعة لدى الحركات الإسلامية عمومًا، ومنها جماعة الإخوان المسلمين، أن النصر الحاسم في معركة الإصلاح لا يمكن تحقيقه في ظل الخلل الواضح في موازين القوة، ولكن يمكن منع القوى المهيمنة من تحقيق أي نصر حاسم، وكلما استطاعت الجماعة منع القوى الاستعمارية من تحقيق نصر اليوم، زادت قدرة الجماعة على تحقيق النصر غدًا، فكلما فشلت القوى المعادية للمشروع الإسلامي من تحقيق أي نصر حاسم عليه، استنزفت تلك القوى، ولم تعد قادرةً على تحقيق النصر الحاسم غدًا، وفي المقابل فإن قوى الإصلاح والمقاومة، كلما استطاعت مواجهة ما تتعرض إليه اليوم واستطاعت الصمود والبقاء، أصبحت أكثر قدرة على تحقيق النصر غدًا.
فأصبحت المعركة بين من يريد تحقيق النصر اليوم، حتى يحسم الأوضاع لصالحه، ومن يريد تأجيل النصر إلى اللحظة التي يستطيع فيها تحقيق الحسم، من خلال قدرته على الصمود في كل المعارك، ومنع الطرف الآخر من تحقيق أي نصر حاسم، وفي فلسطين نرى هذا المشهد واضحًا، فلم تعد دولة الاحتلال الصهيوني قادرةً على تحقيق النصر الحاسم في أيٍّ من معاركها، بل لم تعد قادرةً على تحقيق أي نصر، بل كل ما تستطيع تحقيقه هو التدمير الواسع كما حدث في لبنان، وفي قطاع غزة, والمقاومة في المقابل لم تلق بنفسها في أي معركة حاسمة، ولم تزعم أنها قادرة على الحسم الآن، بل زعمت أنها قادرة على الصمود والبقاء، وقادرة على الدخول في معارك جديدة، والصمود مرة أخرى، وهو ما تحقَّق بالفعل.
وجماعة الإخوان المسلمين في البلاد العربية والإسلامية، وخاصةً في مصر، لم تزعم أنها قادرة على إزالة الاستبداد اليوم، ولم تحاول الدخول في معركة حاسمة مع النظام الحاكم في مصر، ولكنها تؤكد دائمًا قدرتها على البقاء والصمود في وجه الاستبداد، وقدرتها على الاستمرار في معركة الإصلاح، وهو ما حدث بالفعل. ولكن النظم الحاكمة- ومنها النظام المصري- تريد إغلاق ملف الحركات الإسلامية، خاصةً جماعة الإخوان المسلمين، ومع هذا تدرك أنها لا تملك القوة على تحقيق النصر الحاسم، لذا تلجأ إلى حصار الجماعة وإجهادها ومحاولة عزلها، ورغم كل القدرات التي يمتلكها النظام المصري الحاكم، إلا أنه يعرف أن المعركة الشاملة ليست في صالحه، كما يعرف في الوقت نفسه أن بقاء الحركة الإسلامية وانتشارها- خاصةً جماعة الإخوان المسلمين- ليست في صالحه أيضًا.
وهنا تكتشف القوى المعادية للمشروع الإسلامي، أنها غير قادرة على تحقيق نصر حاسم على هذا المشروع، وتدرك أيضًا أن استمرار المواجهة مع هذا المشروع، قد لا تكون في صالحها في المستقبل؛ حيث يمكن أن تتغير موازين القوة بفعل التأييد الشعبي للمشروع الإسلامي، ما يكسبه قوةً شعبيةً هائلةً، تجعل ميزان القوة لصالحه، ولكن رغم ذلك، فإن القوى المعادية للمشروع الإسلامي تخشى من الدخول في معركة حاسمة معه، حتى أن العدو الصهيوني نفسه بدأ يخشى من الدخول في معركة حاسمة مع حركة حماس أو حزب الله، ومعنى هذا أن ميزان القوى قد تغيَّر بالفعل، ولكنه في المرحلة الأولى من تغيره، والتي أدَّت إلى خوف القوى المعادية للمشروع الإسلامي، من الدخول في حرب حاسمة ونهائية مع القوى التي تحمل المشروع الإسلامي.
وفي المقابل، فإن قوى المشروع الإسلامي تعرف أيضًا، أن الوقت لم يحن بعد لدخولها في معركة حاسمة مع القوى المعادية للمشروع الإسلامي، ولكنها تعرف أيضًا أنها نجحت مرَّات عدة في امتحان الصمود والقدرة على البقاء، كما نجحت مرَّات عدة في اختبار القدرة على الاستمرار والانتشار.
الدولتان
لم تعد الدولة القومية العلمانية القطرية قادرة على تأمين بقائها، ولم تستطع القضاء على الحركة الإسلامية، ولم تعد قادرة على الدخول في معركة حاسمة ضد المشروع الإسلامي والمنتمين إليه، ولكنها في الوقت نفسه أصبحت مشروعًا في خطر؛ لذا بدأت النخب الحاكمة تحاول حمايته بأي وسيلة، ولم يعد الغرب قادرًا على بسط هيمنة العلمنة والتغريب، وحماية الدول القومية التي أسسها، ولكنه يحاول الحفاظ على هذا المشروع، بالرغم من أنه لم يعد قادرًا على تحقيق النصر النهائي الذي تمناه.
لم تتحقق بعد الدولة الإسلامية، بوصفها النموذج الحضاري الأصيل، والبديل المقبول من الأمة أو أغلبيتها، للدولة القومية القطرية، ولكن مشروع الدولة البديلة لم يُهزم، بل استطاع الصمود أكثر مما توقَّع الآخرون، ومع صمود حلم الدولة البديلة أصبحت المعركة الحاسمة مؤجلة، والنصر الحاسم لم يتحقق بعد، فبين الدولة القومية المتغربة، والدولة الإسلامية الأصلية، معركة مستمرة، ولم يظهر بعد موعد المعركة الحاسمة