يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة)
يوم عرفة هو أحد الأيام التي أقسم الله تعالى بها منوهاً إلى عظيم فضلها، وعلوِّ قدرها وشرفها قال تعالى: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (سورة الفجر:2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنها عشر ذي الحجة"، وقال ابن كثير: "وهو الصحيح، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))[1].
- ولمَ لا يكون كذلك وحسبه أنه يومٌ ختم الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على عباده فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (سورة المائدة:3).
- ويوم أقسم الله به خصوصاً، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (سورة البروج:3)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليوم الموعود: يوم القيامة، واليوم المشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة))[2].
- وورد في فضل صيام هذا اليوم لغير الحاج أنه يكفر الذنوب لسنة ماضية، وسنة باقية؛ فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: ((يكفِّر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم (2804).
- ويوم عرفة هو أكثر يوم يعتق الله فيه رقاب عباده من النار، ويباهي بهم ملائكته فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهى بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) رواه مسلم (3354).
- وهو يوم عيد للمسلمين حين يقف حجاج بيت الله الحرام على صعيد عرفة يجأرون فيه إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع، والابتهال إليه.
أعمال الحجاج في هذا اليوم:
- يصلي الحاج صلاة الفجر بمنى يوم التاسع من ذي الحجة، ثم ينتظر إلى طلوع الشمس اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر "ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس" صحيح مسلم (3009)، فإذا طلعت الشمس توجه إلى عرفة وإلى موطن الحج الأكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) [3]، ويسن للحاج أن يكثر من الدعاء والتلبية، والتهليل والتكبير لقول محمد بن أبي بكر الثقفي: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية: كيف كنتم تصنعون في التلبية مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم؟ قال: "كان يلبي الملبي فلا يُنْكَر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه، ويهلل المهلل فلا ينكر عليه" رواه البخاري (970).
- "ويسن للحجاج النزول بنمرة في بطن الوادي إلى الزوال إن تيسَّر ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال، يبين فيها ما شرع للحاج في هذا اليوم وبعده، ويأمرهم فيها بتقوى الله وتوحيده، والإخلاص له في كل الأعمال، ويحذرهم من محارمه.. وغير ذلك.
وبعد ذلك يصلي الحجاج الظهر والعصر قصراً وجمعاً في وقت الأولى بأذان واحد، وإقامتين لفعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر"[4].
- فإذا فرغ الحاج من الاستماع للخطبة والصلاة جمعاً وقصراً فعليه أن ينطلق إلى عرفات فقد أجمعت الأمة على أن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم للحج، وأنه لا يتم الحج إلا به، فمن لم يأت عرفة قبل طلوع فجر يوم النحر ولو لحظة، ولو ماراً؛ فقد فاته الحج بإجماع العلماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ))[5].
وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوقوف به وقال: ((عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة))[6].
وقد بُينت حدود عرفة بعلامات وكتابات توضح عرفة من غيرها، فمن كان داخل الحدود الموضحة فهو في عرفة، ومن كان خارجها فهو ليس في عرفة، وعلى كل حاج أن يتأكد من ذلك، وأن يتعرف على تلك الحدود ليتأكد من كونه في عرفة.
والوقوف بعرفة يبدأ من حين زوال شمس يوم التاسع إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر امتثالاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه وقف بعد زوال الشمس وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم)) رواه مسلم (3197) من حديث جابر رضي الله عنه.
مسألة: اختلف العلماء رحمهم الله فيما قبل الزوال من يوم عرفة هل يجزئ الوقوف فيه أم لا يجزئ، على قولين: الأكثرون على أن الوقوف لا يجزئ إلا بعد الزوال، لأنه موقف النبي عليه الصلاة والسلام وفعله، وهذا قول الجمهور، وذهب الإمام أحمد وجماعة إلى أن الوقوف قبل الزوال يجزئ ويدرك به الحج، وأنّ وقت الوقوف يبدأ من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، فلو وقف قبل الزوال في صباح عرفة وانصرف أجزأه ذلك، ولكن عليه دم لأنه لم يقف إلى الغروب، واستدلوا بعموم حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً؛ فقد تمَّ حجه، وقضى تفثه))[7] فأطلق النهار، قالوا: فهذا يشمل ما قبل الزوال وما بعده، لكن الأحوط ما ذهب إليه الجمهور لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ( وتفصيل ذلك في باب أركان الحج فليراجع هناك )
-وإن استطاع الحاج أن يقف عند الصخرات أسفل جبل عرفة دون أن يشق عليه أو يزاحم، فحسن، فهو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم،فإن لم يتيسر له وقف في أي مكان من عرفة سواءً في الخيام أو غيرها، فعرفة كلها موقف كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأفضل له أن يبرز ضاحياً لأنه ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه أبصر رجلاً على بعيره، وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال له: ((أضح لمن أحرمت له)) أي: ابرز فلا تستظل ولا تتسكن في خيمة"[8].
-وينبغي للحاج أن يجتهد في الدعاء والتضرع، والتوبة في هذا الموقف العظيم، ويستمر في ذلك خاضعاً لربه، رافعاً إليه أكف الضراعة، داعياً له بكرة وعشية، طالباً من الله حاجته الحاضرة والمستقبلة، راجياً من الله رحمته، فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي آتوني شعثاً غبراً))[9].
وسواء دعا راكباً أو ماشياً، أو واقفاً أو جالساً، أو مضطجعاً على أي حال كان، ويختار الأدعية الواردة والجوامع لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[10]، ويستمر في البقاء بعرفة والدعاء إلى غروب الشمس.
مسألة: يجب عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر السابق، وفي حديث علي وأسامة: ((أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل يعنق على ناقته، والناس يضربون الإبل يميناً وشمالاً، لا يلتفت إليهم، ويقول: السكينة أيها الناس، ودفع حين غابت الشمس))[11]؛ فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح تام عند أكثر أهل العلم، وعليه دم. ( والتفصيل في باب أركان الحج )
- وبعد الدفع من عرفة يخرج الحاج إلى المبيت بمزدلفة لقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (سورة البقرة:198).
ومزدلفة هي المشعر الحرام بين عرفة ومنى، وسميت بهذه الاسم لأنها أقرب المشعرين إلى الكعبة، ولقبت بالمشعر الحرام لتمييزها عن المشعر الحلال وهو (عرفة)، وتسمى "جمعاً" لأن الناس يجتمعون فيها.
والسنة أن يخرج الحجاج إلى مزدلفة وعليهم السكينة . فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((أردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة"))[12].
وكان صلى الله عليه وسلم كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لناقته حتى تصعد.
- فلما وصل إلى مزدلفة صلى المغرب والعشاء بأذن واحد وإقامتين وجمعهما جمع تأخير، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر.
قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه الممتع:
مسألة: لو صلى المغرب والعشاء في الطريق فما الحكم؟
فأجاب رحمه الله: ذهب ابن حزم إلى أنه لو صلى في الطريق لم يجزئه لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأسامة: ((الصلاة أمامك)) رواه البخاري (139) ومسلم (3159).
وذهب الجمهور: إلى أنه لو صلى في الطريق لأجزأه لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) رواه البخاري (438)، وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأسامة: ((الصلاة أمامك)) فوجهه أنه لو وقف ليصلي وقف الناس، ولو أوقفهم في هذا المكان وهم مشرئبون إلى أن يصلوا إلى مزدلفة، لكان في ذلك مشقة عليهم ربما لا تحتمل؛ فكان هديه عليه الصلاة والسلام هدي رفق وتيسير، لكن لو أن أحداً صلى فإن صلاته تصح؛ لعموم الحديث: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) ، وهذا هو الصحيح.
والحمد لله رب العالمين،