هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام: أسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه، والعافية من مضلات الفتن، كما أسأله سبحانه أن يوفقكم جميعاً لأداء مناسككم على الوجه الذي يرضيه، وأن يتقبل منكم، وأن يردكم إلى بلادكم سالمين موفقين، إنه خير مسؤول.
أيها المسلمون: إن وصيتي للجميع هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال، والاستقامة على دينه، والحذر من أسباب غضبه، وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله، والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال، وأن تؤدوا مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وإن أعظم المنكرات، وأخطر الجرائم؛ هو الشرك بالله سبحانه: وهو صرف العبادة أو بعضها لغيره سبحانه لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (النساء:48)، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65).
حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع وذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وقد علم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم))[1].
فالواجب على المسلمين جميعاً أن يتأسوا به في ذلك، وأن يؤدُّوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المعلم المرشد، وقد بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، وأمر الله عباده بأن يطيعوه، وبيَّن أن أتباعه هو سبب دخول الجنة، والنجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه، وعلى حب الله للعبد كما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(الحشر: 7)، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور: 56)، وقال عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} (النساء: 80)، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، وقال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: 13، 14)، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158)، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوصيتي لكم جميعاً، ولنفسي؛ تقوى الله في جميع الأحوال، والصدق في متابعة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله لتفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجَّه من مكة المكرمة إلى منى ملبياً، وأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يهلُّوا بالحج من منازلهم، ويتوجهوا إلى منى، ولم يأمر بطواف الوداع، فدلّ ذلك على أن السنّة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمين فيها والمحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج أن يتوجهوا إلى منى في اليوم الثامن ملبِّين بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.
ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام: من الغسل، والطيب، والتنظيف، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج، وكانت قد أحرمت بالعمرة، فأصابها الحيض عند دخول مكة، وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتهلّ بالحج، ففعلت ذلك، فصارت قارنة بين الحج والعمرة.
وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في منى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر قصراً دون جمع، وهذا هو السنة تأسياً به صلى الله عليه وسلم.
ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية، وبذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الفقراء.
فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى عرفات، منهم من يلبي، ومنهم من يكبر، فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له بنمرة غربي عرفة، واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز أن يستظل الحجاج بالخيام والشجر ونحوها.
فلما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام، وخطب الناس وذكَّرهم، وعلَّمهم مناسك حجهم، وحذَّرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على جميع المسلمين أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين جميعاً أن يعتصموا بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحكِّموها في جميع شئونهم، وأن يُلزموا شعوبهم بالتحاكم لهما، وذلك هو طريق العزة والكرامة، والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لذلك.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الظهر والعصر قصراً وجمعاً جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين بعد زوال الشمس، ولم يفصل بينهما بصلاة.
ثم توجه إلى الموقف، واستقبل القبلة، ووقف على دابته يذكر الله ويدعوه، ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس، وكان مفطراً ذلك اليوم، فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله صلى الله عليه وسلم في عرفات، وأن يشتغلوا بذكر الله، والدعاء، والتلبية إلى غروب الشمس، وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء، وأن يكونوا مفطرين لا صائمين.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة، وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته))[2]، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: ((انظروا إلى عبادي أتوني شُعثاً غبراً، يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم))[3]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف))[4].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب توجه ملبياً إلى مزدلفة، وصلى بها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين قبل حط الرحال، ولم يصل بينهما شيئاً، فدلَّ ذلك على أن المشروع لجميع الحجاج المبادرة بصلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين من حين وصولهم إلى مزدلفة قبل حط الرحال، ولو كان ذلك في وقت المغرب تأسياً به صلى الله عليه وسلم، وعملاً بسنته.
ثم بات بها، وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشعر فذكر الله عنده وكبَّره، وهلله ودعا ورفع يديه، وقال: ((وقفت ها هنا وجمع كلها موقف)) فدلَّ ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج يبيت كل حاج في مكانه، ويذكر الله ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل، فدل ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء والمرضى والشيوخ ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملاً بالرخصة، وحذراً من مشقة الزحمة، ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلاً كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم.
وذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للنساء بذلك، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد ما أسفر جداً دفع إلى منى ملبياً فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طيبته عائشة رضي الله عنها.
ثم توجه إلى البيت فطاف به، وسُئل صلى الله عليه وسلم في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي، فقال: ((لا حرج))، قال الراوي: فما سئل يومئذ عن شيء قدَّم ولا أخَّر إلا قال: ((افعل ولا حرج))[5]، فعُلم بهذا أن السنَّة للحُجاج أن يبدأوا برمي الجمرة يوم العيد، ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي، ثم يحلقوا أو يقصروا والحلق أفضل من التقصير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين، ومرة واحدة للمقصرين، وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط، ويتطيب، ويباح له كل شيء حُرِّم عليه بالإحرام إلا النساء.
ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده، ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً، وبذلك يحلُّ له كل شيء حَرُمَ عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مفرداً أو قارناً فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم، فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد، واليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ويكبِّر مع كل حصاة، ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية، ويجعل الأولى عن يساره، والثانية عن يمينه، ولا يقف عند الثالثة، ثم دفع صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات فنزل بالأبطح، وصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
ثم نزل إلى مكة في آخر الليل، وصلى الفجر بالناس عليه الصلاة والسلام، وطاف للوداع قبل الصلاة، ثم توجَّه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
فعُلِم من ذلك أن السنَّة للحاج أن يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم في أيام منى، فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم كل واحدة بسبع حصيات، ويكبِّر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى، ويستقبل القبلة، ويدعو ويرفع يديه، ويجعلها عن يساره، ويقف بعد رمي الثانية كذلك، ويجعلها عن يمينه، وهذا مستحب وليس بواجب، ولا يقف بعد رمي الثالثة، فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء رحمة من الله سبحانه بعباده، وتوسعة عليهم، ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس، ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل؛ لكونه موافقاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والسنَّة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم، ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك، ومن كان له عذر شرعي كالسقاة والرعاة ونحوهم فلا مبيت عليه، أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحجاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا ونفروا من منى قبل الغروب في اليوم الثاني عشر، أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر، ويرمي الجمار بعد الزوال ثم ينفر، وليس على أحد رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.
ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت))[6] إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض))[7] متفق على صحته، والنفساء مثلها.
ومن أخَّر طواف الإفاضة فطاف عند السفر أجزأه عن الوداع لعموم الحديثين المذكورين، وأسال الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم، ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.