دروس من خطبة الوداع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، ومجامع الحكم، وينابيع الفهم؛ حتى إنه ليتكلم بالكلمة الواحدة كالوابل الصيب، تروي أرضاً، وتنبت ثمراً يانعاً، فالأرض هي قلوب العباد، والثمار هو الإيمان الممزوج بالحب والإجلال.
وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أوتي من الكلام جوامعه، ومن اللفظ بدائعه؛ إلا أنه في حجة الوداع أتى بجامعة الشريعة، وخلاصة الأحكام فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) رواه مسلم برقم (1218).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان)) ثم قال: ((أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكتَ حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكتَ حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكتَ حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم)) قال محمد: وأحسبه قال ((وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا))
((وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعن بعدي كفارا أو ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه)) ثم قال: ((ألا هل بلغت)). البخاري برقم: (5230) ومسلم برقم: (1679)
فثمة فوائد جمة، وحكم مجملة طوت في إجمال العبارة جمال العبرة، نذكر بعضها فيما يلي:
- بيان أن الناس كانوا "في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه و سلم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخَّروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة.. حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى الله عليه و سلم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السماوات والأرض.. وقال أبو عبيد: كانوا ينسئون أي: يؤخرون، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة: 37)[1]" ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)).
- تبيين عدد أشهر السنة، والأشهر الحرم ((السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
- أسلوب تعليمي رائع في عرض المعلومة لتلقى من الاهتمام والتركيز ما يسهل حفظها ووعيها، وهي البدء بسؤال يشد ذهن السامع، حيث قال: ((أي شهر هذا؟)) قلنا الله ورسوله أعلم قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى. قال: ((فأي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم. قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدة؟)) قلنا: بلى. قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم. قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا بلى يا رسول الله.
- أدب الصحابة رضوان الله عليهم، حين ينصتون، ولا يجترئون على الجواب، ظناً منهم أنه وقع تغيير الأسماء، والإجابة بقول: الله ورسوله أعلم، وتكرر ذلك ثلاثاً ولم يجترئوا ولو في الثالثة..
- حرمة الدماء والأنفس تحريماً مضاعفاً على ما لو انتهك البلد الحرام في الأشهر الحرم في يوم عرفة..
- حرمة أموال المسلمين فيما بينهم فلا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه.. وانتهاكها وتناولها بغير طريق شرعي يعد انتهاكاً لحُرَمٍِ مضاعفة.. بيَّن ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)). فـ"فيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه.. وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وإنما قدم السؤال عنها تذكارا لحرمتها وتقريرا لما ثبت في نفوسهم ليبني عليه ما أراد تقريره على سبيل التأكيد."[2].
- نبذ وإبطال أمر الجاهلية الجهلاء ما يخالف منها شرع الله تعالى، ولو كانت فيها مصالح ظاهرة، فإنها ليست في ميزان الشرع في شيء.. ((ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)). ولا ريب في أن أول ما ينبذ من أمر الجاهلية الشرك وعبادة الأوثان، والكفر بألوهية الواحد القهار..
- لا اعتبار ولا قيمة للثارات المتوارثة من الجاهلية.. ((ودماء الجاهلية موضوعة)) فلا قصاص فيها
- البدء بالنفس والأقارب في العقاب والحرمان والتنازل مما يثقل على الآخرين يهون الأمر في نفوسهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث -كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل-)) فربما خُشي تردد البعض في التطبيق، فبادر عليه الصلاة والسلام بنفسه..
- تحريم الربا، وتصفية حسابات الجاهلية ليس بالتقاضي ما دامت محرمة، وإنما بالكف والترك ((وربا الجاهلية موضوع)) فلا يقال: كانت قد احتسبت لي فوائد أريد تقاضيها.. أو: اتفقنا على ربح زائد على دينٍ، وقد تم العقد، فلنا أخذه ولا ننشئ رباً من بعد..
- ينبغي تحمل الخسارة والبدء بالنفس؛ لئلا يصعب على الآخرين التغيير فيكون أسوة لغيره ((وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله)). فـ"الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله والى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام"[3].
- أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بالنساء، وعلَّق نكاحهن بما يشبه الوثيقة والعهد التي لا ينبغي نقضها.. ((فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) ففي الحديث: "الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك"[4].
- بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الإذن"[5].. ((ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه)).
- "إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب فان ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب ووجبت الكفارة في ماله[6]" ((فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح)). وهذا ليس من القسوة، إنما للتأديب..
قسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً *** فليقسُ أحيانا على من يرحمُ
- "وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع"[7] ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
- بيان أهمية التمسك بكتاب الله تعالى قولا وعملاً وحكماً ومنهجاً ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)) فترك التمسك به يوجب الضلال.
- ((وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) وقوله: ((وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم)) من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أن أعلم أمته بهذا؛ لتصلح أعمالهم ونياتهم، كمن يبين لطلابه بوجود امتحان، وأيضاً لعله يريد النبي صلى الله عليه وسلم التأكد والطمأنينة على ما صاروا عليه من الإيمان واليقين والرسوخ في الدين، حتى قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات..
- التحذير من الوقوع في الكفر والضلال، وتحريم القتال بين المسلمين، ((فلا ترجعن بعدي كفارا أو ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض))، فيُقتل البريء لا يدري علامَ قُتل، ويمر المارُّ يخاف الطريق، فضلاً عن حروب وصراع بين أطراف المسلمين..
- إيجاب تبليغ العلم: ((ألا ليبلغ الشاهد الغائب)).
- أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفروق الفردية وتفاوت الهمم والتلقي والوعي والإدراك، وفيه الحث على الأمل أن في الأمة من يحمل العلم، وقد يفتح الله لهذا ما لا يفتح لذاك، ((فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه)).
- تحريم الظلم وأخذ أموال الناس بدون طيبة من أنفسهم.. كما روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده[8]: ((ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه)) ومنه أكل الربا والرشا والنصب والاحتيال..
- ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العدو الأكبر –الشيطان- محذراً من أمره ومبشراً، ((ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم)).
- الحث على أداء الأمانات وردها إلى أهلها ((ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها))، ومن الأمانة أداء العلم، وتبليغ هذا الدين، والدعوة إلى الله على بصيرة، والقيام بشؤون الأمة ومصالح العباد والبلاد، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه..
- خلاصة القول: بين رسول البشرية عليه الصلاة والسلام حقوق الإنسان كاملة في كلمات جامعة، وبين حقوق المرأة وحق الفرد والمجتمع، وحق المال، وحق الله في ذلك كله، لتكون دستور أمة، ومنهج حياة، وهدياً متبعاً إلى يوم الدين..
- جملة الخطبة كانت توحي بالوداع، وقرب الفراق، لا سيما في تنبيهه صلى الله عليه وسلم على أصول الأحكام ومرتكزات الأمة، وكأنه في هذه الخطبة يوكل إلى الأمة القيام بعبء دولتهم ومجتمعهم، ويخلي عهدته ليستلمها منه القادة الأفذاذ.. وكأنما يسلمهم ملفات الأمة وأوراق الدولة مذكراً لهم بأمانتها، وإقامة العدل في شؤونها.. ونراه يُشهد على ما سلَّم؛ لما جرى من قواعد شريعته من مقتضى الإشهاد عند الاستلام والتسليم لمقاليد الأمور وعقد العهود..
إلى غير ذلك من الفوائد التي تعطر بها مجالس الصالحين، حين تفوح من أفواه العلماء.. فما أكثر أنفاسهم، إذ كل عالم قد يستنبط من العلم ما يفتح الله عليه..
وفقنا الله لمرضاته، وجمعنا مع نبيه في دار كرامته..