الأضحية وحكمها
من حكمة الله سبحانه أن شرع لأهل الأمصار الذين لم يُقدَّر لهم أن يحجوا ويهدوا إلى البيت الحرام؛ ما يشاركون به إخوانهم الحجاج، فشرع لهم الأضاحي، ثم شرع لمن أراد منهم فعلها أن يمسك عن شعره وأظفاره وأبشاره (أي: جلده) إن دخلت العشر الأوَائل من ذي الحجة كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً)) رواه مسلم (1977)، وهذا الخطاب موجه من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يضحي وليس لمن ضُحي عنه.
تعريف الأضحية عند الفقهاء:
والأضحية في لغة العرب فيها أربع لغات كما نقل الجوهري عن الأصمعي قوله: "وفيها أربع لغات، إضحِية، وأُضحية، والجمع أضاحي، وضَحِيَّةٌ على فعيلة والجمع ضحايا، وأضْحَاةٌ والجمع أضحىً كما يقال أرطاةٌ وأرطى"[1]، "ويقال ضحى تضحيةً إذا ذبح الأضحية وقت الضحى، هذا هو الأصل فيه كما قال أهل اللغة"[2].
وقد عرَّف الفقهاء الأضحية بعدة تعريفات منها ما يلي:
1. عند الحنفية أنها في اللغة: اسم لما يذبح أيام الأضحى من تسمية الشيء باسم وقته، وشرعاً: "ذبح حيوان مخصوص بنية القربة في وقت مخصوص"[3].
2. أو "هي اسم لحيوان مخصوص، بسن مخصوص، يذبح بنية القربة في يوم مخصوص، عند وجود شرائطها وسببها"[4].
3. وعند الشافعية والحنابلة: "هي ما يذبح من النعم تقرباً إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق"[5].
والتذكية هي إزهاق روح الحيوان ليتوصل إلى حلِّ أكله، فتشمل الذبح والنحر، بل تشمل العقر أيضاً كما لو شرد ثورٌ أو بعير فطُعِنَ برمح أو نحوه مع التسمية، ونية الأضحية.
الحكمة من تشريعها:
ولعل الحكمة من تشريعها هو شكر الله - تبارك وتعالى - على نِعَمِهِ المتعددة، وعلى بقاء الإنسان من عام لعام، ولتكفير السيئات التي يرتكبها إما بارتكاب المخالفة، أو نقص المأمورات، وللتوسعة على أسرة المضحي وغيرهم؛ فلا يجزئ فيها دفع القيمة بخلاف غيرها من العبادات أو الصدقات التي يقصد منها سد حاجة الفقير قال الله تبارك وتعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة الحج:36).
مشروعية الأضحية:
الأصل في مشروعيتها: الكتاب, والسنة, والإجماع.
- أولاً: من الكتاب: ورد في كتاب الله تبارك وتعالى فيما يدل على مشروعيتها الكثير من الآيات نذكر منها قول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (سورة الكوثر:2) قال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: {فَصَلِّ} أي أقم الصلاة المفروضة عليك، كذا رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما, وقال قتادة وعطاء وعكرمة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة العيد يوم النحر, {وَانْحَرْ} نُسُكك, وقال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي، فأُمِرَ أن يصلي ثم ينحر, وقال سعيد بن جبير رحمه الله أيضاً: صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع (أي مزدلفة)، وانحر البدن بمنى"[6]، وقال ابن كثير رحمه الله: "قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن: يعني بذلك نحر البدن ونحوها, وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والربيع وعطاء الخراساني والحكم وسعيد بن أبي خالد وغير واحد من السلف، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير الله، والذبح على غير اسمه كما قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ...الآية}"، ثم قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر أقوالاً أخرى في تفسير الآية: "والصحيح القول الأول أن المراد بالنحر ذبح المناسك"[7].
- ثانياً: من السنة: وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة جداً تدل على مشروعية الأضاحي منها حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد؛ فأُتي به؛ فقال لها: ((يا عائشة هلمي المدية)), ثم قال: ((اشحذيها بحجر)), ففعلت, ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد))، ثم ضحى به" رواه مسلم برقم (1967)، وحديث أنس رضي الله عنه قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده" رواه البخاري برقم (5238)؛ ومسلم برقم (1966).
- ثالثاً: الإجماع: وقد نقل العلماء الإجماع على مشروعيتها فقال ابن قدامه المقدسي رحمه الله: "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية"[8]، وقال رحمه الله: "أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة روي ذلك عن أبي بكر عمر بلال وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم، وبه قال سويد بن عفلة وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود عطاء والشافعي[9], وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر.
وقال ربيعة ومالك[10], والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة[11] هي واجبة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا))[12], وعن محنف بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أيها الناس: إن على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة))[13]"[14].
ويستحب الإحسان في ذبح الأضحية، وإحداد الشفرة[15]، لأن ذلك من الرفق بها، وقد ورد في السنة ما يدل على ذلك فعن عائشة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم برقم (2594)، وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته)) رواه مسلم برقم (1955).
في حق من تشرع الأضحية:
يرى الحنفية أنه يشترط في المضحي أن يكون غنياً[16], وقال المالكية: إن الأضحية لا تسن في حق الفقير الذي لا يملك قوت عامه، وتشرع بحيث لا تجحف بمال المضحي بأن لا يحتاج لثمنها في ضرورياته في عامه، فإن احتاج فهو فقير[17], وقال الشافعية: تشرع الأضحية في حق من ملك ثمنها فاضلاً عن حاجته، وحاجة من يمونه في يومه وليلته، وكسوة فصله، أي ينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد، وأيام التشريق[18], والحنابلة قالوا: تشرع الأضحية في حق القادر عليها الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدَّين، إذا كان يقدر على وفاء دينه[19].
ويشترط في الأضحية عدة شروط ينبغي أن تتوفر وهي كما يلي:
أولاً: أن تكون من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (سورة الحج:34) وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن[20], والإبل تجزئ عن سبعة، وكذلك البقرة, أما الضأن والغنم فتجزئ عن واحد وأهل بيته.
ثانياً: أن تبلغ السن المحدود شرعاً: وذلك بأن تكون جذعة من الضأن, أو ثنية من غيره لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنَّة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم (1963).
والمسنة: الثنية فما فوقها, والجذعة: ما دون ذلك, فالثني من الإبل: ما له خمس سنين, والثني من البقر: ما له سنتان, والثني من الغنم ما له سنة, والجذع: ما له نصف سنة; فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجدع من الضأن.
ثالثاً: أن تكون خالية من العيوب المانعة من الإجزاء: والعيوب المانعة هي أربعة كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي أقصر من يده فقال: ((أربع لا يجزن: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى))[21].
1- العور البيِّن: وهو الذي تنخسف به العين، أو تبرز حتى تكون كالزر، أو تبيض ابيضاضاً يدل دلالة بينة على عورها.
2- المرض البين: وهو الذي تظهر أعراضه على البهيمة كالحمى التي تقعدها عن المرعى، وتمنع شهيتها, والجرب الظاهر المفسد للحمها، أو المؤثر في صحته, والجرح العميق المؤثر عليها في صحتها ونحوه.
3- العرج البين: وهو الذي يمنع البهيمة من المشي مع السليمة.
4- الهزال المزيل للمخ.
فهذه العيوب الأربعة مانعة من إجزاء الأضحية بما تعيب بها, ويلحق بها ما كانت مثلها أو أشد, فلا تجزئ الأضحية بما يأتي:
1- العمياء التي لا تبصر بعينها.
2- مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين.
3- والعاجزة عن المشي لعاهة فيها, وغير ذلك مما يلحق بها.
فإذا ضممت ذلك إلى العيوب الأربعة المنصوص عليها، وما يلحق بها؛ كانت لا تجزئ في الهدي ولا في الأضاحي.
رابعاً: أن تكون ملكاً للمضحي أو مأذوناً له فيها من قبل الشرع، أو من قبل المالك; فلا تصح بما لا يملكه كالمغصوب والمسروق، والمأخوذ بدعوى باطلة ونحوه, لأنه لا يصح التقرب إلى الله بمعصيته.
ويشترط في المضحي لصحة التضحية شروط هي كالتالي:
الشرط الأول: النية: وذلك لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يقع قربة إلا بالنية لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)) رواه البخاري (1)؛ ومسلم (1907), وقد اتفق على هذا الشرط الحنفية[22], والمالكية[23], والشافعية[24], والحنابلة[25].
لو وكل في الذبح كفت نيته، ولا حاجة لنية الوكيل، بل لا حاجة لعلمه بأنها أضحية، وقالوا أيضاً: يجوز لصاحب الأضحية أن يفوِّض في نية التضحية مسلماً مميزاً ينوي عند الذبح أو التعيين، بخلاف الكافر وغير المميز بجنون أو نحوه[26].
الشرط الثاني: أن يكون المضحي مسلماً عاقلاً بالغاً, وذلك لأنها عبادة، والله تبارك وتعالى لا يقبل العمل إلا ممن كان مسلماً, أما الكافر فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه, والعاقل لأنه مكلف فلا يقبل العمل ممن هو مجنون لأنه غير مكلف، وكذلك الذي لم يبلغ.
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم وأحكم, والحمد لله رب العالمين.